الاثنين، 13 يونيو 2011

لحظات جنون


في البداية كانت الكلمة... وكان العرش على الماء؛ والماء فيض وسيلان، متدفق، غدِّق لا يكّل عن الدَغفَقة. الدغفقة هنا بمعنى الإنصباب، الإنصباب الى تحت؛ لعل الملاحظ ان كل شيء يهوي، ولا شيء يعلو، الا من فقد ظاهره فبات يطفو، لكن ليس الى خلوات وتقاسيم وجهه، بل طفا الى خلوات الكون، وذلك كقول أبي العلاء:


القلبُ كالماءِ والأهواءُ طافيةٌ          عليه مثل حَبابِ الماء في الماءِ

والقلب هنا كروح العالم في الأنسي؛ للأنسي روح، تعمل عمل روح الكون، اي انها في تمدد دائم منذ لحظة الإنفجار الأول، اي لحظة الجنون الأولى. وللروح حرارة —والحرارة تنبع من النار؛ ذلك تقدير الملاحظات والتقاليد، لا التحليل العقلاني المحض، فإقتضى التوضيح عبر الملاحظة— إذن للروح حرارة، ونحن كبشر فصيلة حارة، ذو إعتدال؛ وبالإعتدال نقصد التقويم الطبيعي لمن ينتمون لهذه الفصيلة التي اسمها البشر. طبعاً لا يخلو الأمر من شواذ وفروقات؛ فروقاتٍ في الشكل و المكنون، وما كان مكنوناً كان مستوراً عن العين، ظاهرٌ للقلوب؛ فالقلوب تتفكر، بمعنى انها تشعر، ومن شَعَرَ كان بَشَرَ... أي كان انساني، انساني جداً.
بعيداً عن حرارة القلب وصقيع العقل، كانت الكلمة: كُن... إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ

فكانت الكلمة كُن... كافٌ ونون، وما بين الكاف والنون قرون، او لا شيء غير السكون، فوق النون؛ بما معناه ان في كُن انسلاخ لمفهومين، انسلاخٌ لفريقين، متخاصمين، متعاديين، وهذا الإنسلاخ يُحتم ضرورة الصراع —صراعٌ على الوجود، او على البقاء... او بالأحرى صراعٌ للهيمنة؛ أي اننا نقول بأن بإنتهاء احدهما انتهاء للأخر، فإبنتهاء الصراع تدخل الألف بين الكاف والنون، تدخل الألف كسدٌ منيع يمنع التقاء الكاف والنون لتُصبح كُن... كان.
لكن بعيداً عن الكان، فلنا عودة مع الكان المشؤومة لاحقاً، فلنبقى في الكُن. كُن هي صراعٌ دائم، صراعٌ فاعل وفعال، فاعلٌ بالقوة وفاعلٌ بالفعل —أي فكرةٌ وعمل—... فالكاف هي كافَّين والنون نونَّين:

كاف الكفر ونون النار... في مقابل: كاف الكمال ونون النور

ولكن يقتضي التنويه هنا بأن كل الأشياء مقلوبة، باتت مقلوبة، فقد اجبرت البشرية ان تمشي رأساً على عقب، وبات الدين دستوراً لمفاضلة الفظّ والغلظّ على الغّر المتفكر. فباتت نون الأولى مقرونة بكاف الثانية، والعكس صحيح؛ ولهذا السبب بات الحري بمن تعرف على الخُضْر ان يكتنف صقيع الخُضْر —لي عودة بخصوص الخضر— نصرةً لنار الإنسان، التي هي نور البشرية.
هكذا إذاً، بات يقتضي منا التمحص بالأمور رأساً على عقب، إذا ما اردنا بالفعل ان نرى الأمور، ليس كما هي، بل كما هي حقيقةً اي قبل ان تُقلب. عودةً الى الفيض الكامن في داخلنا، ذلك الفيض المتناهي مكاناً، اللامتناهي زماناً —أي انه منذ بدء الخليقة، او لنكن واضحين غير مبهمين على عكس كل المشعوذين المخاطبين في بيوت ذو اصراح ممتدة للسماء وارضيات غارقة في الأرض، فبعكس هؤلاء ممن قاموا لغاية الأن ومنذ السنون الألاف بتجزيع وترهيب النفوس، والقاء الذعر بالقلوب حفاظاً على غُنمٍ غنموه دون وجه حق، او بالأحرى دون اي وجه سوى وجه الوهم والخيال؛ بعيداً عن هؤلاء فلتكن كلماتنا تُنطَقُ من العقول والقلوب المتفكرة؛ فمنذ بدء محاولات فهمنا لموضعنا في خريطة الكون، جوبهت البشرية بكمٍ هائلٍ من الأشباح الأثيرية، التي جعلت قلوبنا في مكان غير المكان، وزمان بعد الزمان، وباتت عقولنا ناظرة لما يكون إن صار، لا لما يصير بغض النظر عما يكون او سيكون.

هنا دخلت البشرية لحظة الجنون، الإرتياب مما يكون، جنون ادى بما ادى الى السكون، ومن السكون سننتقل الى سكون، وشتان بين سكون فعال وسكون معتزل، وكي لا تبقى البشرية، وبداية هذه الأمة المشرقية عالقة بين ساكنين، احدهما ظاهر والثاني مستور، بات علينا ان ننظر الى الصور مقلوبةً، فالحقيقة كانت تُقرأ من اليمين الى اليسار، الأن باتت الحقيقة تقرأ يساراً الى يمين؛ فلتكن يسارنا بداية ليميننا في زمن بات اهل اليسار يحكمون اهل اليمين، لضعف ووهن اليمين... من ايدينا.
سنعود،

0 التعليقات:

إرسال تعليق